Lord-Ahmed
عدد المساهمات : 452 تاريخ التسجيل : 28/05/2013
| موضوع: إرمِ سعد إرمِ .. فداك أبي وأمي [ سعد بن أبي وقاص ] الثلاثاء يونيو 04, 2013 2:39 pm | |
|
[ محمد رسول الله يحرض سعداً يوم أُحد ]
{ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .
لهذه الآيات الكريمات قصة فذّة رائعة ، اصطرعت فيها طائفة من العواطف المتناقضة ، في نفس فتى طريّ العود ؛ فكان النصر للخير على الشر ، وللإيمان على الكفر .
أما بطل القصة ففتى من أكرم فتيان مكة نسباً ، وأعزّهم أماً وأباً . ذلك الفتى هو سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه وأرضاه .
كان سعد حين أشرق نور النبوة في مكة شابّاً ريّان الشباب غضّ الإهاب رقيق العاطفة كثير البرّ بوالديه شديد الحبِّ لأمه خاصة .
وعلى الرغم من أن سعداً كان يومئذٍ يستقبل ربيعه السابع عشر ؛ فقد كان يضمّ بين برديه كثيراً من رجاحة الكهول ، وحكمة الشيوخ .
فلم يكن مثلاً يرتاح إلى ما يتعلق به لِداته (المماثلون له في السن) من ألوان اللهو ، وإنما كان يصرف همّه إلى بري السهام ، وإصلاح القسيّ (الأقواس التي يرمى بها) ، والتمرس بالرماية حتّى لكأنّه كان يعد نفسه لأمر كبير .
ولم يكن أيضاً يطمئن إلى ما وجد عليه قومه من فساد العقيدة وسوء الحال ، حتى لكأنه كان ينتظر أن تمتدّ إليهم يد قوية حازمة حانية ؛ لتنتشلهم مما يتخبطون فيه من ظلمات .
* * *
وفيما هو كذلك شاء الله عز وجل أن يُكرم الإنسانية كلها بهذه اليد الحانية البانية .
فإذا هي يد سيّد الخلق محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم ...
وفي قبضتها الكوكب الإلهي الذي لا يخبو : كتاب الله الكريم ...
فما أسرع أن استجاب سعد بن أبي وقّاص لدعوة الهدى والحقِّ ؛ حتى كان ثالث ثلاثة أسلموا من الرجال أو رابع أربعة . ولذا كثيراً ما كان يقول مفتخراً : لقد مكثت سبعة أيامٍ وإني لثلث الإسلام .
* * *
كانت فرحة الرسول صلوات الله وسلامه عليه بإسلام سعدٍ كبيرة ؛ ففي سعدٍ من مخايل النجابة ، وبواكير الرجولة ما يبشّر بأن هذا الهلال سيكون بدراً كاملاً في يومٍ قريب .
ولسعدٍ من كرم النسب وعزة الحسب ماقد يغري فتيان مكة بأن يلسكوا سبيله ، وينسجوا على منواله . ثم إن سعداً فوق هذا كله من أخوال النبي عليه الصلاة والسلام ؛ فهو من بني زهرة وبنو زهرة أهل آمنة بنت وهب أم النبي صلى الله عليه وسلم . وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعتزّ بهذه الخؤولة .
فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً مع نفرٍ من أصحابه فرأى سعد بن أبي وقاص مُقبلاً فقال لمن معه : ( هذا خالي ... فليُرني امرُؤ خالَهُ ) .
* * *
لكن إسلام سعد بن أبي وقاص لم يمرّ سهلاً هيناً ، وإنما عرَّض الفتى المؤمن لتجربة من أقسى التجارب قسوة وأعنفها عنفاً ؛ حتى إنّه بلغ من قسوتها وعنفها أن أنزل الله سُبحانه في شأنها قرآناً ...
فلنترك لسعدٍ الكلام ليقصّ علينا خبر هذه التجربة الفذّة .
قال سعدٌ : رأيتُ في المنام قبل أن أُسلم بثلاث ليالٍ كأني غارقٌ في ظُلُماتٍ بعضها فوق بعض ، وبينما كنت أتخبّط في لججها إذ أضاء لي قمرٌ فاتَّبعته فرأيتُ نفراً أمامي قد سبقوني إلى ذلك القمر ...
رأيت : زيد بن حارثة ، وعليّ بن أبي طالب ، وأبا بكرٍ الصديق ...
فقلت لهم : منذ متى أنتم ها هُنا ؟! فقالوا : السَّاعة .
ثم إني لمّا طلع عليَّ النهار بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام مستخفياً ، فعلمتُ أنّ الله أراد بي خيراً ، وشاء أن يُخرجني بسببه من الظلمات إلى النور .
فمضيت إليه مسرعاً حتى لقيته في شعب جياد ، وقد صلَّى العصر ، فأسلمتُُ ، فما تقدّمني أحدٌ سوى هؤلاء النفر الذين رأيتهم في الحلم .
ثم تابع سعدٌ رواية قصة إسلامه فقال :
وما إن سمعتْ أمي بخبر إسلامي حتى ثارت ثائرتها ، وكنت فتى برّاً بها محبّاً لها ، فأقبلت عليّ تقول : يا سعدُ ما هذا الدين الذي اعتنقته فصرفك عن دين أمك وأبيك ... والله لتدعنّ دينك الجديد أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت ... فيتفطّر فؤادك حزناً علي ، ويأكلك الندم على فعلتك التي فعلت ، وتُعيِّرك الناسُ بها أبد الدهر .
فقلتُ : لا تفعلي يا أماه ، فأنا لا أدع ديني لأي شيء ٍ .
لكنّها مضت في وعيدها ، فاجتنبت الطعام والشراب ، ومكثت أياماً على ذلك لا تأكل ولا تشرب ، فهزل جسمها ووهن عظمها وخارت قواها .
فجعلتُ آتيها ساعةً بعد ساعةٍ أسألها أن تتبلَّغ بشيءٍ من طعامٍ أو قليلٍ من شرابٍ ؛ فتأبى ذلك أشد الإباء ، وتُقسم ألاًّ تأكل أو تشرب حتَّى تموت أو أدع ديني
عند ذلك قلت لها : يا أمّاه إني على شديد حبّي لك لأشدّ حباً لله ورسوله ... ووالله لو كان لكِ ألفُ نفسٍ فخَرجَتْ منكِ نفساً بعد نفسٍ ما تركت ديني هذا لشيءٍ .
فلمَّا رأت الجدّ مني أذعنت للأمر ، وأكلت وشربت على كرهٍ منها ، فأنزل الله فينا قوله عزّ وجلّ :
{ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ}
لقد كان يوم إسلام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من أكثر الأيّام براً بالمسلمين ، وأجزلها خيراً على الإسلام .
ففي يوم بدر كان لسعد وأخيه عمير موقفٌ مشهود ؛ فقد كان عمير يومئذٍ فتى حدثاً لم يجاوز الحلم إلا قليلاً ، فلمّا أخذ الرسول عليه الصلاة والسلام يعرضُ جند المسلمين قبل المعركة توارى عمير أخو سعدٍ خوفاً من أن يراه الرسول صلى الله عليه وسلم فيردّه لصغر سنّه ، لكنّ رسول الله عليه الصلاة والسلام أبصره وردّه ؛ فجعل عمير يبكي حتّى رقّ له قلب النبي صلى الله عليه وسلم وأجازه .
عند ذلك أقبل عليه سعد فَرِحاً ، وعقد عليه حِمالة سيفه عقداً لصغره ، وانطلق الأَخَوان يُجاهدان في سبيل الله حقّ الجهاد.
فلمّا انتهت المعركة عاد سعدٌ إلى المدينة وحده ، أمّا عمير فقد خلّفه شهيداً على أرض بدرٍ واحتسبه عند الله .
* * *
وفي أحدٍ حين زلزت الأقدام ، وتفرق المسلمون عن النبي عليه الصلاة والسلام حتى لم يبق إلا في نفرٍ قليلٍ لا يتمون العشرة ؛ وقف سعد بن أبي وقّاص يُناضل عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بقوسه ، فكان لا يرمي رميةً إلاّ أصابت من مشركٍ مقتلاً .
ولمّا رآه الرسول عليه السلام يرمي هذا الرمي ، جعل يحضّه ويقول له : ( ارمِ سعد ... ارمِ سعد فداك أبي وأمي ) ...
فظلّ سعد يفتخر بها طوال حياته ويقول : ما جمع الرسول صلى الله عليه وسلم لأحدٍ أبويه إلا لي ... وذلك حين فدّاه بأمه وأبيه معاً .
* * *
ولكنّ سعداً بلغ ذروة مجده حين عزم الفاروق على أن يخوض مع الفرس حرباً تُديل دولتهم ، وتثُلّ عرشهم ، وتجتثّ جذور الوثنيّة من على ظهر الأرض ، فأرسل كتبه إلى عمّاله في الآفاق ... أن أرسلوا إليّ كل من كان له سلاحٌ أو فرس ، أو نجدة أو رأي ، أو مزية من شعر ، أو خطابة أو غيرها مما يجدي على المعركة .
فجعلت وفود المجاهدين تتدفق على المدينة من كل صوب ، فلما تكاملت أخذ الفاروق يستشير أصحاب الحل والعقد في من يوليه على الجيش الكبير ويسلم إليه قيادَهُ ، فقالوا بلسانٍ واحدٍ : الأسدُ عادياً ... سعدُ بن أبي وقّاص ، فاستدعاه عمر رضوان الله عليهما ، وعقد له لواء الجيش .
* * *
ولمّا همّ الجيش الكبير بأن يفصل عن المدينة وقف عمر بن الخطّاب يودّعه ويوصي قائده فقال :
يا سعدُ ، لا يغرّنّك من الله أن قيل : خالُ رسول الله ، وصاحبُ رسول الله ، فإنّ الله عزّ وجلّ لا يمحو السيّئ بالسيِّئ ، ولكنّه يمحو السيئة بالحسنة .
يا سعد : إنّ الله ليس بينه وبين أحدٍ نسبٌ إلاّ الطاعة ، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواءٌ ؛ الله ربهم وهم عباده يتفاضلون بالتقوى ويدركون ما عند الله بالطاعة ، فانظر الأمر الذي رأيت النبي عليه فالتزمه فإنَّه الأمر .
ومضى الجيش المبارك وفيه تسعة وتسعون بدريّاً (من شهدوا معركة بدر) ، وثلاثمائة وبضعة عشر ممن كانت لهم صحبةٌ فيما بين بيعة الرضوان فما فوق ذلك ، وثلاثمائة ممن شهدوا فتح مكة مع رسول الله ، وسبعمائة من أبناء الصحابة .
* * *
مضى سعدٌ وعسكر بجيشه في القادسية ، ولمّا كان يوم " الهرير " * ، عزم المسلمون على أن يجعلوها القاضية ؛ فأحاطوا بعدوِّهم إحاطة القيد بالمعصم ، ونفذوا إلى صفوفه من كلِّ صوبٍ مهللين مكبّرين ...
فإذا رأس رستم قائد جيش الفرس مرفوعٌ على رماح المسلمين ، وإذا بالرعب والهلع يدبّان في قلوب أعداء الله حتّى كأن المسلم يشير إلى الفارسي فيأتيه فيقتله ، وربما قتله بسلاحه .
أمّا الغنائم فحدِّث عنها ولا حرج ، وأمّا القتلى فيكفيك أن تعلم أنّ الذين قضوا غرقاً فحسب قد بلغوا ثلاثين ألفاً .
* * *
عُمِّر سعدٌ طويلاً وأفاء الله عليه من المال الشيء الكثير ، لكنّه حين أدركته الوفاة دعا بجُبَّةٍ من صوفٍ باليةٍ وقال :
كفّنوني بها فإني لقيت بها المشركين يوم بدر ...
وإنّي أُريد أن ألقى بها الله عزّ وجلّ أيضاً . | |
|