هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، زين العابدين ومنار القانتينكان عابدا وفيا وجوادا حفيًا، وأمه أم ولد اسمها غزالة، وهو علي الأصغر بن الحسين،وأما علي الأكبر بن حسين فقتل مع أبيه بنهر كربلاء وليس له عقب، ويكنى بأبي الحسين، وكان علي بن حسين مع أبيه وهو ابن ثلاث وعشرين سنة وكان مريضًا نائمًا علىفراشه فلما قتل الحسين قال شمر بن ذي الجوشن: اقتلوا هذا فقال له رجل من أصحابه: سبحان الله أنقتل فتى حدثًا مريضًا لم يقاتل، وهو من الطبقة الثانية من التابعين، ولدومات بالمدينة المنورة. موقفه مع ابن زياد ويزيد ابن معاوية
جاءعمر بن سعد فقال: لا تعرضوا لهؤلاء النسوة ولا لهذا المريض، قال علي بن الحسينفغيبني رجل منهم وأكرم نزلي واختصني وجعل يبكي كلما خرج ودخل حتى كنت أقول: إن يكنعند أحد من الناس خير ووفاء فعند هذا؛ إلى أن نادى منادي بن زياد ألا من وجد عليبن حسين فليأت به فقد جعلنا فيه ثلاثمائة درهم، فدخل والله علي وهو يبكي وجعل يربطيدي إلى عنقي وهو يقول: أخاف؛ فأخرجني والله إليهم مربوطا حتى دفعني إليهم وأخذثلاثمائة درهم وأنا أنظر إليها، فأخذت وأدخلت على ابن زياد فقال: ما اسمك فقلت:علي بن حسين قال: أو لم يقتل الله عليًا، قلت: كان لي أخ يقال له: علي أكبر منيقتله الناس قال: بل الله قتله قلت: الله يتوفى الأنفس حين موتها؛ فأمر بقتله فصاحتزينب بنت علي: يا ابن زياد، حسبك من دمائنا، أسألك بالله إن قتلته إلا قتلتني معه؛فتركه، ولما دخلت على يزيد بن معاوية بمن بقي من أهلي؛ قام رجل من أهل الشام فقال:إن سباءهم لنا حلال، فقلت: كذبت ولؤمت ما ذاك لك، إلا أن تخرج من ملتنا وتأتي بغيرديننا، فأطرق يزيد مليًا ثم قال للشامي: اجلس، وقال لي: إن أحببت أن تقيم عندنافنصل رحمك ونعرف لك حقك فعلت، وإن أحببت أن أردك إلى بلادك وأصِلُكَ قال: بل تردنيإلى بلادي فرده إلى بلاده ووصله. موقفه مع هشام بن عبد الملك
رويأن هشام بن عبد الملك حج في خلافة أبيه وأخيه الوليد فطاف بالبيت؛ فلما أراد أنيستلم الحجر لم يتمكن حتى نصب له منبر فاستلم وجلس عليه، وقام أهل الشام حوله،فبينما هو كذلك إذا أقبل علي بن الحسين فلما دنا من الحجر ليستلمه تنحى عنه الناسإجلالاً له وهيبة واحترامًا وهو في بزة حسنة وشكل مليح، فقال أهل الشام لهشام: منهذا؟ فقال: لا أعرفه استنقاصًا به واحتقارًا؛ لئلا يرغب فيه أهل الشام، فقالالفرزدق وكان حاضرًا: أنا أعرفه فقالوا: ومن هو؟ فأشار الفرزدق يقول: هذاالذي تَعرِف البطحاءُ وطأتَه *** والبَيْتُ يَعْرِفه والحِلُّ والحرمُ هذاابنُ خيرِ عبادِ الله كلِّهم *** هذا التقيُّ النقيُّ الطاهرُ العلَمُ هذاابنُ فاطمةٍ إن كنتَ جاهله *** بجدِّه أنبياءُ الله قد خُتِموا وليسقولُك مَن هذا بضائرِه *** العُرْبُ تعرِف مَنْ أنكرتَ والعجم إذارأته قريشٌ قال قائلها *** إلى مكارِم هذا ينتهي الكرمُ يُغْضِيحياءً ويُغْضى من مهابته *** فما يُكَلَّمُ إلا حين يَبْتسِم بكَفّهخيزْرانٌ رِيحُها عَبِقٌ *** من كفّ أروعَ في عِرْنينه شمم يكاديُمسكه عِرْفانَ راحته *** رُكنُ الحطيم إذا ما جاء يستلم اللهشرَّفه قِدْماً وعَظمه *** جَرَى بذاك له في لوحِه القلم أيُّالخلائق ليست في رقابهم *** لأَوَّلِيَّة هذا أولَهُ نِعَمُ مَنْيشكرِ الله يشكرْ أَوّليَّة ذا *** فالدِّين من بيت هذا ناله الأمم يَنْمِيإلى ذِروة الدين التي قَصُرت *** عنها الأكفُّ وعن إدراكها القَدَمُ مَنْجَدُّه دان فَضْلُ الأنبياء له *** وفَضْلُ أمَّته دانت له الأمم مُشتقَّةٌمن رسول الله نبَعتُه *** طابت مغارسُه والخِيمُ والشِّيَمُ ينشقُّثَوبُ الدجى عن نُور غُرَّته *** كالشمس تنجابُ عن إشراقها الظُلَم مِنْمعشرٍ حبُّهم دينٌ وبغضهمُ *** كُفْرٌ وقُرْبُهُم مَنْجىً ومُعْتَصَم مُقَدَّمٌبعد ذكر الله ذِكرُهُم *** في كلِّ بدْء ومختومٌ به الكَلِم إنعُدَّ أهلُ التُّقى كانوا أئمتَهم *** أو قيل مَنْ خيرُ أهل الأرض قيلَ همُ لايستطيع جوادٌ كنهَ جودهمُ *** ولا يدانيهمُ قومٌ وإن كرموا يُسْتَدفَعالشّرُّ والبلوى بحبِّهمُ *** ويستربُّ به الإِحْسانُ والنِّعَم قالفغضب هشام من ذلك وأمر بحبس الفرزدق بعسفان بين مكة والمدينة، فلما بلغ ذلك علي بنالحسين بعث إلى الفرزدق باثنى عشر ألف درهم فلم يقبلها وقال: إنما قلت ما قلت لله ونصرة للحق وقيامًا بحق رسول الله r في ذريته، ولست أعتاض عن ذلك بشيء، فأرسل إليه علي بن الحسينيقول: قد علم الله صدق نيتك في ذلك وأقسمت عليك بالله لتقبلنها فتقبلها منه ثم جعليهجو هشاما وكان مما قال فيه: أتَحِبسنيبين المدينة والتي *** إليها قلوب الناس يَهْوى مُنِيبُها يقلِّبُرأساً لم يكن رأس سيِّد *** وعيناً له حولاء بادٍ عيوبُها من ملامح شخصيته
تواضعه
عُرفعن علي بن الحسين تواضعه الجم، ولا عجب في ذلك فجده سيد الخلق محمد الذي كان خلقه القرآن كما أخبرت السيدة عائشة رضي الله عنها، ولقد جاءه نفر فأثنواعليه فقال: ما أكذبكم وما أجرأكم على الله، نحن من صالحي قومنا وبحسبنا أن نكون منصالحي قومنا. عفوه وصفحه عن الآخرين
كانعلي بن الحسين كجده محمد حليمًا عفوًا يصفح عمن أساء إليه، ولقد جاء إليه رجل فقال له: إنفلانا قد آذاك، ووقع فيك قال: فانطلق بنا إليه، فانطلق معه وهو يرى أنه سينتصر لنفسه،فلما أتاه قال: يا هذا، إن كان ما قلت في حقًا فغفر الله لي، وإن كان ما قلت فيباطلاً فغفر الله لك. وكانبين حسن بن حسن وبين علي بن الحسين بعض الأمر فجاء حسن بن حسن إلى علي بن الحسينوهو مع أصحابه في المسجد فما ترك شيئًا إلا قاله له، وعلي ساكت فانصرف حسن، فلماكان في الليل أتاه في منزله فقرع عليه بابه فخرج إليه فقال له علي: يا أخي إن كنتصادقًا فيما قلت لي غفر الله لي، وإن كنت كاذبًا فغفر الله لك، السلام عليكم وولى،فاتبعه حسن فالتزمه من خلفه وبكى حتى رثى له، ثم قال: لا جرم لا عدت في أمر تكرهه،فقال علي: وأنت في حل مما قلت لي. وخرجيوما من المسجد فسبه رجل؛ فانتدب الناس إليه فقال: دعوه ثم أقبل عليه فقال: ماستره الله عنك من عيوبنا أكثر ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحيا الرجل فألقى إليهخميصة كانت عليه وأمر له بألف درهم، فكان الرجل بعد ذلك إذا رآه يقول: إنك منأولاد الأنبياء. وقالعبد الرزاق سكبت جارية لعلي بن الحسين عليه ماء ليتوضأ فسقط الإبريق من يدها علىوجهه فشجه فرفع رأسه إليها فقالت الجارية إن الله يقول والكاظمين الغيظ فقال قدكظمت غيظي قالت والعافين عن الناس فقال عفا الله عنك فقالت والله يحب المحسنين قالأنت حرة لوجه الله تعالى..! ونالمنه رجل يوما فجعل يتغافل عنه يريه أنه لم يسمعه فقال له الرجل إياك أعني فقال لهعلي وعنك أغضي. بذله النصيحة
كانعلي بن الحسين ناصحًا لأصحابه مقومًا ما يراه خطأً في سلوكهم، ومما يروى عنه فيذلك ما حدث بينه وبين ابن شهاب الزهري وقد أصاب دمًا خطأ، فخرج وترك أهله وضربفسطاطا وقال: لا يظلني سقف بيت، فمر به علي بن حسين فقال: يا ابن شهاب، قنوطك أشدمن ذنبك، فاتق الله واستغفره، وابعث إلى أهله بالدية وارجع إلى أهلك. فكان الزهرييقول: علي بن حسين أعظم الناس علي منة. وماتلرجل ولد مسرف على نفسه فجزع عليه من أجل إسرافه فقال له علي بن الحسين: إن منوراء ابنك خلالاً ثلاثًا شهادة أن لا إله إلا الله، وشفاعة رسول الله، ورحمة الله . وقاللابنه ناصحًا: يا بني لا تصحب فاسقًا فإنه بيعك بأكلة وأقل منها يطمع فيها ثم لاينالها، ولا بخيلاً فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه، ولا كذابًا فإنهكالسراب يقرب منك البعيد ويباعد عنك القريب، ولا أحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك،ولا قاطع رحم فإنه ملعون في كتاب الله قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِوَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُفَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}. وقاللابنه أيضًا: يا بني اصبر على النوائب، ولا تتعرض للحقوق، ولا تخيب أخالك إلا فيالأمر الذي مضرته عليك أكثر من منفعته لك. ورعه وخشيته وعبادته
كانعلي بن الحسين إذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة فقيل له ما لك فقال ما تدرون بين يديمن أقوم ومن أناجي. وكان الزهري يقول: ما رأيت قرشيًا أورع منه ولا أفضل. ولماحج أراد أن يلبي فارتعد وقال: أخشى أن أقول لبيك اللهم لبيك فيقال لي: لا لبيكفشجعوه على التلبية فلما لبى غشي عليه حتى سقط عن الراحلة، وكان يصلي في كل يوموليلة ألف ركعة. وذكرواأنه احترق البيت الذي هو فيه وهو قائم يصلي فلما انصرف قالوا له مالك لم تنصرففقال إني اشتغلت عن هذه النار بالنار الأخرى وكان إذا توضأ يصفر لونه فإذا قام إلىالصلاة ارتعد من الفرق فقيل له في ذلك فقال ألا تدرون بين يدي من أقوم ولمن أناجي. كثرة صدقاته
وكانكثير الصدقة بالليل، وكان يقول: صدقة الليل تطفئ غضب الرب، وتنور القلب والقبر، وتكشفعن العبد ظلمه يوم القيامة. وقال محمد بن إسحاق: كان ناس بالمدينة يعيشون لا يدرونمن أين يعيشون، ومن يعطيهم؟ فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك فعرفوا أنه هو الذيكان يأتيهم في الليل بما يأتيهم به، ولما مات وجدوا في ظهره وأكتافه أثر حملالجراب إلى بيوت الأرامل والمساكين في الليل، وقيل: إنه كان يعول مائة أهل بيتبالمدينة ولا يدرون بذلك حتى مات. ودخل علي بن الحسين على محمد بن أسامة بن زيديعوده فبكى ابن أسامة فقال له: ما يبكيك؟ قال: علي دين قال: وكم هو؟ قال: خمسة عشرألف دينار، وفي رواية سبعة عشر ألف دينار فقال: هي علي. علمه وحبه للعلم
قالالزهري: كان أكثر مجالستي مع علي بن الحسين وما رأيت أفقه منه وكان قليل الحديثوكان من أفضل أهل بيته وأحسنهم طاعة وأحبهم إلى مروان وابنه عبد الملك وكان يسمىزين العابدين. وفيروايته للحديث يقول أبو بكر بن أبي شيبة: أصح الأسانيد كلها الزهري عن علي بنالحسين عن أبيه عن جده. وكانعلي بن الحسين إذا دخل المسجد تخطى الناس حتى يجلس في حلقة زيد بن أسلم، فقال لهنافع بن جبير بن مطعم: غفر الله لك أنت سيد الناس تأتي تخطي حلق أهل العلم وقريشحتى تجلس مع هذا العبد الأسود فقال له علي بن الحسين: إنما يجلس الرجل حيث ينتفع،وإن العلم يطلب حيث كان. من كلماته
وقالعلي بن الحسين: سادة الناس في الدنيا الأسخياء الأتقياء، وفي الآخرة أهل الدينوأهل الفضل والعلم والأتقياء، لأن العلماء ورثة الأنبياء. وقالأيضًا: إني لأستحي من الله أن أرى الأخ من إخواني فأسأل الله له الجنة وأبخل عليه بالدنيا. وكانيقول: الفكرة مرآة تري المؤمن حسناته وسيئاته. وقال: فقد الأحبة غربة. وكانيقول: إن قومًا عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وآخرون عبدوه رغبة فتلك عبادةالتجار، وآخرون عبدوه محبة وشكرًا فتلك عبادة الأحرار الأخيار. وكانيقول: لا يقول رجل في رجل من الخير مالا يعلم إلا أوشك أن يقول فيه من الشر ما لايعلم، وما أصطحب اثنان على معصية إلا أوشك أن يفترقا على غير طاعة. وكانيقول إذا مرت عليه جنازة: نراعإذا الجنائز قابلتن *** ونلهو حين نمضي ذاهبات كروعةثلة لمغار سبع *** فلما غاب عادت راتعات وفاته
اختلفأهل التاريخ في السنة التي توفي فيها علي بن الحسين زين العابدين، فالمشهور عنالجمهور أنه توفي في سنة أربع وتسعين في أولها عن ثمان وخمسين سنة، وصلى عليهبالبقيع ودفن به. وقيل: مات علي بن الحسين وسعيد بن المسيب وعروة وأبو بكر بن عبدالرحمن سنة أربع وتسعين وقال بعضهم توفي سنة ثنتين أو ثلاث وتسعين وأغرب المدائنيفي قوله إنه توفي سنة تسع وتسعين والله أعلم. المصادر