Lord-Ahmed
عدد المساهمات : 452 تاريخ التسجيل : 28/05/2013
| موضوع: إِذَا ذُكِرَ الصَّالِحُونَ فَحَيَّهَلاً بِعُمَر الثلاثاء يونيو 04, 2013 3:25 pm | |
| إِذَا ذُكِرَ الصَّالِحُونَ فَحَيَّهَلاً بِعُمَر
إبراهيم الدميجي بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ الحمد لله الولي الحميد, جعلنا من خير أمة أخرجت للناس, خير الخلق نبيها, وخير الأصحاب أصحابه, لا كان ولا يكون مثلهم, صفوة الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي أفضل الأمم وأكرمها على الله عز وجل, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله, صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. أما بعد: فلا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل، ومن أفضل خلق الله بعد الأنبياء والمرسلين أبو حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد فعل. فمن يجاري أبا حفص وسيرته ** أو من يحاول للفاروق تشبيهاً وإذا جرد ابن تيمية قلمه للكتابة عن عمر؛ علمنا أن نوعاً راقياً من الكتابة يُشيّد. ونظماً بديعاً من المعاني ينثر, فإذا انضم لذلك غضبة سُنّيّة حنيفية دفاعاً عن أمير المؤمنين, الذي فرق الله به بين الحق والباطل؛ أيقنّا بجزالة الكلم، وفخامة المعاني، ونصاعة البراهين، وقوّة الأسلوب, فلله أبوه! ورحم الله امرأة درّت عليه وحَنَت! حي المنازل إذ لا تبتغي بدلاً ** بالدار داراً ولا الجيران جيراناً يا أيها الراكب المُزجي مطيّته ** بلّـغ تحــيتنا لُقّـــيت حملانا بلغ رسائل عنا خفّ محملها ** على قلائص لم يحـملن حيرانا أحبب إلي بذاك الجزع منزلة ** بالطلح طلحاً وبالأعطان أعطانا أبُدّلَ الليل لا تسري كواكـبه ** أم طال حتى حسبت النجم حيرانا لمّا تبيّنتُ أن قد حيل دونهمُ ** ظلّت عساكرُ مثل الموت تغشانا أتبعتهم مقلةً إنسانها غرق ** هل ما ترى تارك للعين إنسانا يا حبّذا جبل الريّان من جبل ** وحبّذا ســاكن الريّان من كانا وحبّذا نفحــــات من يمانيةٍ ** تأتيك من قِبَلِ الرّيـان أحــيانا فرضي الله عن الفاروق, ورحم ابن تيمية. وجزاهما عن الإسلام خير ما جزى المصلحين والمجاهدين. ومن ذلك أن أحد رؤوس الرافضة، ويقال له ابن المطهّر الحلّي, ألّف كتاباً في ذم السنة وأهلها، وملأه بالدجل الفاحش، والكذب الممجوج, وسوء الأدب مع أفضل قرون الأمة، وموّه ببعض الأغاليط، حتى راج على أشباه الأنعام، من الرافضة الذين دندنوا ببعض قرمطته وسفسطته عند أهل الحق, فرغبوا للجبل الأشم، والبحر الخضم؛ شيخ الإسلام ابن تيمية؛ أن يهتك شبه الدجال الرافضي، فانبرى رحمه الله وأعلى نزله وجمعنا به ووالدينا ووالديه في عليين، فسطّر كتابه الباهر (منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية) فنقض شبه الرافضي شرعاً وعقلاً، فأعلى الله به السنة، وقمع به البدعة، وأطار به وساوس الرافضة، كما اطار عمر وساوس المفتونين إبّان حياته. بالعلم والحجة والبرهان, وبالسيف والدِّرَّةِ والسنان, تلك المكارم لا قعبان من لبن..كأنما عناهما أبو تمام إذ قال: فما هو إلا الوحي أو حد مرهف ** تميــل ظباه أخدعي كل ماثل فهذا دواء الداء من كل عــالم ** وهذا دواء الداء من كل جاهل وقد حققه الدكتور محمد رشاد سالم في تسعة مجلدات, وقد لخص مهماته الحافظ الذهبي رحمه الله في كتابه المنتقى.
وفي هذا المقام سأورد بعض ما سطّره الإمام عن أمير المؤمنين عمر في ذلك السفر النفيس, على سبيل الاختصار والاقتصار عليه دون غيره, فكل الصيد في جوف الفَرَا, وإن كان لم ينو الاستيعاب, وعلى بعضه لا كله فلم أقصد كذلك الاستيعاب, مع شيء من التصرف. قال رحمه الله تعالى:
1- ومناقب عمر باب طويل, قد صنف الناس فيه مجلدات مثل كتاب أبي الفرج بن الجوزي, وعمر بن شبه، وغيرهما, غير ما ذكره الإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة العلم, مثل ما صنفه خيثمة بن سليمان في فضائل الصحابة, والدارقطني والبيهقي, وغيرهم.
2- ومن إجابة الله لدعوته؛ أنه دعا على أناس لما عارضوه في قسمة الأرض, فقال: اللهم اكفني فلاناً وذويه، فما حال الحول وفيهم عين تطرف.
3- وأما خوف عمر من الله تعالى, ففي صحيح البخاري, عن المسور بن مخرمة قال: لما طعن عمر, جعل يألم, فقال ابن عباس وكأنه يجزعه _أي يزيل جزعه_: يا أمير المؤمنين! ولئن كان ذلك, لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته, ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته, ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت المسلمين فأحسنت صحبتهم, ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون. فقال: أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه و سلم ورضاه؛ فإنما ذاك من الله منّ به عليّ. وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه؛ فإنما ذاك من الله منّ به عليّ. وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً؛ لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه.
وفي صحيح البخاري عن عمرو بن ميمون في حديث قتل عمر، قال: يا ابن عباس: انظر من قتلني. فجال ساعة ثم جاء، فقال: غلام المغيرة. قال: الصنع؟ قال: نعم. قال: قاتله الله، لقد أمرت به معروفاً، الحمد لله الذي لم يجعل قتلي بيد رجل يدعي الإسلام_فقتيل الكافر أعظم درجة من قتيل المسلمين_ قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقاً، فقال: إن شئت فعلت _أي: إن شئت قتلنا_ قال: كذبت_أي: أخطأت_ بعد ما تعلموا بلسانكم، وصلوا قبلتكم، وحجوا حجكم. فاحتمل إلى بيته فانطلقنا معه، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ, فقائل يقول: لا بأس, وقائل يقول: أخاف عليه, فأُتى بنبيذ فشربه, فخرج من جوفه, ثم أتى بلبن فشربه فخرج من جرحه, فعلموا أنه ميت, فدخلنا عليه, وجاء الناس يثنون عليه, وجاء رجل شاب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك, من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقدم في الإسلام ما قد علمت, ووليت فعدلت, ثم شهادة. قال: وددت أن ذلك كفافاً لا علي ولا لي. فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض. فقال: ردوا على الغلام. قال: يا ابن أخي! ارفع إزارك, فإنه أنقى لثوبك, وأتقى لربك. يا عبد الله بن عمر! انظر ما علي من الدين؟ فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفاً أو نحوه, قال: إن وفى له مال آل عمر فأدّ من أموالهم, وإلا فسل في بني عدي بن كعب, فإن لم تف أموالهم وإلا فسل في قريش, ولا تعدهم إلى غيرهم, فاد عني هذا المال, انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل: يقرأ عليك عمر السلام, ولا تقل: أمير المؤمنين, فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً, وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه.
فسلّمَ واستأذن, ثم دخل عليها, فوجدها قاعدة تبكي, فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام, ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه. فقالت: كنت أريده لنفسي ولأوثرنه اليوم على نفسي. فلما أقبل, قيل: هذا عبد الله ابن عمر وقد جاء, فقال: ارفعوني, فأسنده رجل إليه, فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين, أذنت. قال الحمد لله, ما كان شيء أهم من ذلك, فإذا أنا قضيت؛ فاحملوني, ثم سلّم, وقل: يستأذن عمر بن الخطاب, فإن أذنت لي؛ فأدخلوني, وإن ردتني؛ ردوني إلى مقابر المسلمين... وذكر تمام الحديث.
ففي نفس الحديث؛ أنه يعلّم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مات وهو عنه راض, ورعيته عنه راضون, مقرون بعدله فيهم. ولما مات كأنهم لم يصابوا بمصيبة قبل مصيبته لعظمها عندهم. وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم, وتصلون عليهم ويصلون عليكم, وشرار أئمتكم الذي تبغضونهم ويبغضونكم, وتلعنونهم ويلعنونكم" ومعلوم أن شهادة الرعية لراعيها أعظم من شهادته هو لنفسه, وقد قال تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً" (البقرة: 143) وفي المسند عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: "يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار" قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: "بالثناء الحسن وبالثناء السيء" ومعلوم أن رعية عمر انتشرت شرقاً وغرباً, وكانت رعية عمر خيراً من رعية علي, وكانت رعية علي جزءاً من رعية عمر, ومع هذا فكلّهم يصفون عدله وزهده وسياسته, ويعظمونه, والأمة قرناً بعد قرن تصف عدله وزهده وسياسته, ولا يُعرف أن أحداً طعن في ذلك. والرافضة لم تطعن في ذلك, بل لما غلت في علي؛ جعلت ذنب عمر كونه تولى! وجعلوا يطلبون له ما يتبين به ظلمه, فلم يمكنهم ذلك. ولم يقتل عمر رضي الله عنه رجل من المسلمين, لرضا المسلمين عنه, وإنما قتله كافر فارسي مجوسى.
وخشيته من الله لكمال علمه, فإن الله تعالى يقول: "إنما يخشى الله من عباده العلماء" ( فاطر: 28)
وأما علي رضي الله عنه, فإن أهل السنة يحبونه ويتولونه ويشهدون بأنه من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين. ويقولون: لم يظهر لعلي من العدل مع كثرة الرعية وانتشارها ما ظهر لعمر ولا قريب منه. وعمر لم يول أحداً من أقاربه, ومع هذا يخاف أن يكون ظلمهم.
4- وقد ثبت من علم عمر وفضله ما لم يثبت لأحد غير أبي بكر, ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم, أنه كان يقول: "قد كان في الأمم قبلكم محدثون, فإن يكن في أمتي أحد فعمر" قال ابن وهب: تفسير محدثون: ملهمون. وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "بينا أنا نائم, إذ رأيت قدحاً أُتيتُ به, فيه لبن, فشربت منه حتى أني لأرى الرّي يخرج من أظفاري, ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب" قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: "العلم". وفي الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "بينا أنا نائم, رأيت الناس يُعرضون عليّ, وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك, ومرّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجرّه" قالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: "الدين". وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث؛ في مقام إبراهيم, وفي الحجاب, وفي أسارى بدر. وفي الصحيحين أنه لمّا مات عبد الله بن أبي بن سلول, دُعي له رسول الله صلى الله عليه و سلم ليصلي عليه, قال عمر: فلما قام, دنوت إليه, فقلت: يا رسول الله! أتصلي عليه وهو منافق؟ فأنزل الله: "ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره" (التوبة: 84) وأنزل الله: "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم" ( التوبة: 80). وقد روى من وجوه ثابتة عن مكحول عن غضيف عن أبي ذر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: "إن الله جعل الحق على لسان عمر, يقول به" وفي لفظ: "جعل الحق على لسان عمر وقلبه" أو "قلبه ولسانه" وهذا مروى من حديث ابن عمر وأبي هريرة.
وقد روى أحمد والترمذي وغيرهما قال أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن المقري حدثنا حيوة بن شريح حدثنا بكر بن عمرو المعافري عن مشرح بن هاعان عن عقبة بن عامر الجهني قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: "لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب" ورواه ابن وهب وغيره عن ابن لهيعة عن مشرح فهو ثابت عنه. وروى ابن بطة من حديث عقبة بن مالك الخطمى قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "لو كان غيري نبي لكان عمر بن الخطاب" وفي لفظ: "لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر" وهذا اللفظ في الترمذي.
والعلماء يعرفون قدر علمه وفقهه. وهؤلاء أهل العلم الذين يبحثون الليل والنهار عن العلم, وليس لهم غرض مع أحد, بل يرجحون قول هذا الصاحب تارة وقول هذا الصاحب تارة بحسب ما يرونه من أدلة الشرع, كسعيد بن المسيب, وفقهاء المدينة, مثل عروة بن الزبير, والقاسم بن محمد, وعلي بن الحسين, وأبي بكر بن عبد الرحمن, وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة, وسليمان بن يسار, وخارجة بن زيد, وسالم بن عبد الله بن عمر, وغير هؤلاء لا يحصي عددهم إلا الله من أصناف علماء المسلمين, كلهم خاضعون لعدل عمر وعلمه.
وأما التفاوت بين سيرة عمر وسيرة من ولي بعده, فأمر قد عرفته العامة والخاصة, فإنها أعمال ظاهرة, وسيرة بينة, يظهر لعمر فيها من حسن النية وقصد العدل وعدم الغرض وقمع الهوى, مالا يظهر من غيره, ولهذا قال له النبي صلى الله عليه و سلم: "ما رآك الشيطان سالكاً فجا؛ إلا سلك فجاً غير فجك" لأن الشيطان إنما يستطيل على الإنسان بهواه وعمر قمع هواه. وقال: "إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه" ووافق ربه في غير واحدة نزل فيها القرآن بمثل ما قال. وقال ابن عمر: كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر. وهذا لكمال نفسه بالعلم والعدل, قال الله تعالى: "وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً" (الأنعام: 115) فالله تعالى بعث الرسل بالعلم والعدل, فكل من كان أتمّ علماً وعدلاً؛ كان أقرب إلى ما جاءت به الرسل, وهذا كان في عمر أظهر منه في غيره, وهذا في العمل والعدل ظاهر لكل أحد, وأما العلم فيعرف برأيه وخبرته بمصالح المسلمين وما ينفعهم وما يضرهم في دينهم ودنياهم, ويعرف بمسائل النزاع التي له فيها قول ولغيره فيها قول, فإن صواب عمر في مسائل النزاع وموافقته للنصوص أكثر من صواب عثمان وعلي, ولهذا كان أهل المدينة إلى قوله أميل ومذهبهم أرجح مذاهب أهل الأمصار, فإنه لم يكن في مدائن الإسلام في القرون الثلاثة أهل مدينة أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم, وهم متفقون على تقديم قول عمر على علي, وأما الكوفيون؛ فالطبقة الأولى منهم أصحاب ابن مسعود يقدمون قول عمر على قول علي, وأولئك أفضل الكوفيين, حتى قضاته شريح وعَبِيدة السلماني وأمثالهما, كانوا يرجحون قول عمر وعلي على قوله وحده. ورسالة عمر المشهورة في القضاء إلى أبى موسى الأشعري تداولها الفقهاء, وبنوا عليها واعتمدوا على ما فيها من الفقه وأصول الفقه.
5- وكان زاهداً ورعاً في كل شأنه, ولم يكن له غرض في فَدَك ولا غيرها, فلم يأخذها لنفسه, ولا لأحد من أقاربه وأصدقائه, ولا كان له غرض في حرمان أهل بيت النبي صلى الله عليه و سلم, بل كان يقدّمهم في العطاء على جميع الناس, ويفضلهم في العطاء على جميع الناس, حتى إنه لما وضع الديوان للعطاء وكتب أسماء الناس, قالوا: نبدأ بك؟ قال: لا, ابدأوا بأقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وضعوا عمر حيث وضعه الله. فبدأ ببني هاشم, وضمّ إليهم بني المطلب, لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد, إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام" فقدّم العباس وعلياً والحسن والحسين, وفرض لهم أكثر مما فرض لنظرائهم من سائر القبائل, وفضّل أسامة بن زيد على ابنه عبد الله في العطاء, فغضب ابنه وقال: تفضل علي أسامة؟! قال: فإنه كان أحب إلى رسول الله منك, وكان أبوه أحب إلى رسول الله من أبيك. وهذا الذي ذكرناه من تقديمه بني هاشم وتفضيله لهم, أمر مشهور عند جميع العلماء بالسير, لم يختلف فيه اثنان.
6- وكان عمر عادلاً وقّّّافاً عند كتاب الله تعالى. روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: قدم عيينة بن حصن على ابن أخيه الحر بن قيس, وكان من النفر الذين يدنيهم عمر, وكان القرّاء أصحاب مجالس عمر كهولاً كانوا أو شباناً, فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي! لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه, فقال: سأستأذن لك عليه. قال ابن عباس: فاستأذن الحرّ لعيينة, فأذن له عمر, فلما دخل عليه قال: هيه يا ابن الخطاب! فوالله ما تعطينا الجزل, ولا تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتى همّ أن يوقع به, فقال له الحرّ: يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه و سلم: "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" (الأعراف: 199) وإن هذا من الجاهلين, فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه. وكان عمر وقافاً عند كتاب الله.
وعمر رضي الله عنه من المتواتر عنه أنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم, حتى أنه أقام على ابنه الحدّ لما شرب بمصر, بعد أن كان عمرو ابن العاص ضربه الحدّ, لكن كان ضربه سراً في البيت, وكان الناس يُضربون علانية, فبعث عمر إلى عمرو يزجره, ويتهدده, لكونه حابي ابنه, ثم طلبه, فضربه مرة ثانية, فقال له عبد الرحمن: ما لك هذا! فزجر عبد الرحمن. وأخبار عمر المتواترة في إقامة الحدود وأنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم أكثر من أن تذكر.
وقد بلغ من علمه وعدله ورحمته بالذرية؛ أنه كان لا يفرض للصغير حتى يفطم, ويقول: يكفيه اللبن. فسمع امرأة تُكرهُ ابنها على الفطام؛ ليُفرض له. فأصبح فنادى في الناس: إن أمير المؤمنين يفرض للفطيم والرضيع. وتضرُّرَ الرضيع كان بإكراه أمه لا بفعله هو, لكن رأى أن يفرض للرضعاء ليمتنع الناس عن إيذائهم, فهذا من إحسانه إلى ذرية المسلمين.
وفي صحيح مسلم عن ابن أبي مليكة قال: سمعت عائشة وسُئلت: من كان رسول الله صلى الله عليه و سلم مستخلفاً لو استخلف؟ قالت: أبو بكر, فقيل لها: ثم من بعد أبي بكر؟ قالت: عمر, قيل لها: ثم من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة عامر بن الجراح, ثم انتهت إلى هذا.
ومن المعلوم للخاص والعام؛ أن عدل عمر رضي الله عنه ملأ الأفاق, وصار يضرب به المثل, كما قيل: سيرة العمرين, وأحدهما عمر بن الخطاب, والآخر قيل: إنه عمر بن عبد العزيز, وهو قول أحمد بن حنبل وغيره من أهل العلم والحديث, وقيل: هو أبو بكر, وهو قول أبي عبيدة وطائفة من أهل اللغة والنحو. ويكفي الإنسان؛ أن الخوارج _الذين هم أشد الناس تعنتاً_ راضون عن أبي بكر وعمر في سيرتهما, وكذلك الشيعة الأولى أصحاب علي رضي الله عنه كانوا يقدمون عليه أبا بكر وعمر, وروى ابن بطة ما ذكره الحسن بن عرفة: حدثني كثير بن مروان الفلسطيني عن أنس بن سفيان عن غالب بن عبد الله العقيلي قال: لما طعن عمر دخل عليه رجال منهم ابن عباس, وعمر يجود بنفسه, وهو يبكي, فقال له ابن عباس: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فقال له عمر: أما والله ما أبكي جزعاً على الدنيا, ولا شوقاً إليها, ولكن أخاف هول المطلع! قال: فقال له ابن عباس: فلا تبك يا أمير المؤمنين, فوالله لقد أسلمت؛ فكان إسلامك فتحاً, ولقد أُمّرت؛ فكانت إمارتك فتحاً, ولقد ملأت الأرض عدلاً, وما من رجلين من المسلمين يكون بينهما ما يكون بين المسلمين فتُذكر عندهما إلا رضيا بقولك, وقنعا به. قال: فقال عمر: أجلسوني. فلما جلس قال: أعد على كلامك يا ابن عباس. قال: نعم, فأعاده. فقال عمر: أتشهد لي بهذا عند الله يوم القيامة يا ابن عباس؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين, أنا أشهد لك بهذا عند الله, وهذا علي يشهد لك, وعلي بن أبي طالب جالس, فقال علي بن أبي طالب: نعم يا أمير المؤمنين.
وعن عبد خير قال: رأيت علياً صلى العصر, فصف له أهل نجران صفين, فلما صلى أومأ رجل منهم إلى رجل فأخرج كتاباً فناوله إياه, فلما قرأه دمعت عيناه, ثم رفع رأسه إليهم فقال: يا أهل نجران, أو يا أصحابي, هذا والله خطّى بيدي, وإملاء عمر علي, فقالوا يا أمير المؤمنين: أعطنا ما فيه. فدنوت منه فقلت: إن كان راداً على عمر يوماً فاليوم يرد عليه, فقال: لست راداً على عمر شيئا صنعه, إن عمر كان رشيد الأمر, وإن عمر أعطاكم خيراً مما أخذ منكم, وأخذ منكم خيراً مما أعطى. ولم يجر لعمر نفع مع أخذ لنفسه إنما أخذه لجماعة المسلمين.
7- وقد أعزّ الله به الإسلام, وبسط له الثناء على ألسن المؤمنين, وقد أفرد العلماء مناقب عمر, فإنه لا يُعرف في سير الناس كسيرته. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت كأني أنزع على قليب بدلو, فأخذها ابن أبي قحافة فنزع ذنوباً أو ذنوبين, وفي نزعة ضعف, والله يغفر له, ثم أخذها عمر بن الخطاب؛ فاستحالت في يده غرباً, فلم أر عبقرياً من الناس يفرى فريه, حتى ضرب الناس بعطن". وقالت عائشة رضي الله عنها: كان عمر أحوذياً, نسيج وحده, قد أعدّ للأمور أقرانها. وكانت تقول: زينوا مجالسكم بذكر عمر. وروى الشعبي عن علي رضي الله عنه قال: ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما رأيت عمر قط, إلا وأنا يُخيَّلُ لي أن بين عينيه ملكاً يسدّده. وقال أيضاً: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر. وقال أيضاً: إذا ذُكر الصالحون فحيهلاً بعمر, كان إسلامه نصراً, وإمارته فتحاً. وقال أيضاً: كان عمر أعلمنا بكتاب الله, وأفقهنا في دين الله, وأعرفنا بالله, والله لهو أبين من طريق الساعين. يعنى أن هذا أمر بيّن يعرفه الناس. وقال أيضاً: لو أن علم عمر وُضع في كفّة ميزان, ووضع علم أهل الأرض في كفة, لرجح عليهم. وقال أيضاً لما مات عمر: إني لأحسب هذا قد ذهب بتسعة أعشار العلم, وإني لأحسب تسعة أعشار العلم ذهب مع عمر يوم أصيب. وعن زيد بن وهب: أن رجلاً أقرأه معقل بن مقرن آية, وأقرأها عمر بن الخطاب آخر, فسألا ابن مسعود عنها, فقال: لأحدهما: من أقرأكها؟ قال: معقل بن مقرن. وقال للآخر: من أقرأكها؟ قال: عمر بن الخطاب. فبكى ابن مسعود حتى كثرت دموعه, ثم قال: اقرأها كما أقرأكها عمر, فإنه كان أقرأنا لكتاب الله, وأعلمنا بدين الله. ثم قال: كان عمر حصناً حصيناً على الإسلام, يدخل في الإسلام, ولا يخرج منه, فلما ذهب عمر انثلم الحصن ثلمة لا يسدها أحد بعده, وكان إذا سلك طريقا اتبعناه ووجدناه سهلاً, فإذا ذكر الصالحون فحيهلاً بعمر, فحيهلاً بعمر, فحيهلاً بعمر. وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: كان الإسلام في زمن عمر كالرجل المقبل, لا يزداد إلا قرباً, فلما قُتل؛ كان كالرجل المدبر, لا يزداد إلا بعداً. وقال مجاهد: إذا اختلف الناس في شيء؛ فانظروا ما صنع عمر فخذوا برأيه. وقال أبو عثمان النهدي: إنما كان عمر ميزاناً, لا يقول كذا ولا يقول كذا.
وهذه الآثار وأضعافها مذكورة بالأسانيد الثابتة في الكتب المصنفة في هذا الباب, ليس من أحاديث الكذابين, والكتب الموجودة فيها هذه الآثار المذكورة بالأسانيد الثابتة كثيرة جداً, روى عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث ابن عمر وابن عباس وغيرهما أنه قال: "اللهم أعز الإسلام بأبي جهل بن هشام أو بعمر بن الخطاب" قال فغدا عمر على رسول الله صلى الله عليه و سلم, فأسلم يومئذ. وفي لفظ: "أعزّ الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك" وروى النضر عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما أسلم عمر قال المشركون: قد انتصف القوم منا. وروى أحمد بن منيع: حدثنا ابن عليه حدثنا أيوب عن أبي معشر عن إبراهيم قال: قال ابن مسعود: كان عمر حائطاً حصيناً على الإسلام, يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه, فلما قُتل عمر انثلم الحائط, فالناس اليوم يخرجون منه. وعن أم أيمن رضي الله عنها, قالت: وَهَى الإسلام يوم مات عمر. وعن القاسم بن محمد: كانت عائشة رضي الله عنها تقول: من رأى عمر بن الخطاب؛ علم أنه خلق غناء للإسلام, كان والله أحوذياً نسيج وحده, قد أعد للأمور أقرانها. وقال محمد بن إسحاق في السيرة: أسلم عمر بن الخطاب, وكان رجلا ذا شكيمة, لا يرام ما وراء ظهره, فامتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عزّوا. وكان عبد الله بن مسعود يقول: ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر بن الخطاب, فلما أسلم؛ قاتل قريشاً حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه. وقال أبو المعالي الجويني: ما دار الفلك على شكله. وثبت عن طارق بن شهاب قال: إن كان الرجل ليحدّث عمر بالحديث, فيكذب الكذبة, فيقول: احبس هذه! ثم يحدّثه الحديث فيقول: احبس هذه! فيقول: كل ما حدثتك به حق إلا ما أمرتني أن أحبسه. وعن ابن عمر أن عمر بن الخطاب بعث جيشاً, وأمّر عليهم رجلاً يُدعى سارية, قال: فبينا عمر يخطب في الناس, فجعل يصيح على المنبر: يا سارية! الجبل. يا سارية! الجبل. قال: فقدم رسول الجيش, فسأله, فقال: يا أمير المؤمنين! لقينا عدونا فهزمونا, فإذا بصائح: يا سارية! الجبل. يا سارية! الجبل. فأسندنا ظهورنا إلى الجبل؛ فهزمهم الله. فقيل لعمر بن الخطاب: إنك كنت تصيح بذلك على المنبر. وثبت عن قيس عن طارق بن شهاب, قال: كنا نتحدث أن عمر يتحدث على لسانه ملك. وعن مجاهد قال: كان عمر إذا رأى الرأي نزل به القرآن. وعن حماد بن زيد قال: سمعت خالداً الحذاء يقول: نرى أن الناسخ من قول رسول الله صلى الله عليه و سلم؛ ما كان عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
8- وكان الشيطان يفرق منه, وعن مجاهد قال: كنا نتحدث أن الشياطين كانت مصفدة في إمارة عمر, فلما قتل عمر وثبت. واستأذن عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعنده نساء من قريش يكلمنه, ويستكثرنه, عالية أصواتهن, فلما استأذن عمر؛ قمن فابتدرن الحجاب, فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك, فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجبت من هؤلاء اللاتي كُنَّ عندي, فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب" فقال عمر: قلت: يا رسول الله! أنت أحق أن يهبن. ثم قال عمر: أي عدوات أنفسهن تهبنني, ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه و سلم! قلن: نعم, أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه و سلم. قال رسول الله: "والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجاً؛ إلا سلك فجاً غير فجك" متفق عليه, وفي حديث آخر: "إن الشيطان يفر من حسّ عمر"(الطبراني 8/80 والديلمي عن أنس).
9_ وله وصايا حسنة نافعة, عن يحيى بن جعدة قال: قال عمر رضي الله عنه: لولا ثلاث لأحببت أن أكون قد لحقت بالله؛ لولا أن أسير في سبيلي الله, أو أضع جبهتي في التراب ساجداً, أو أجالس قوماً يلتقطون طيب الكلام كما يلتقط طيب الثمر. وكلام عمر رضي الله عنه من أجمع الكلام وأكمله, فإنه ملهم مُحَدَّث, كل كلمة من كلامه تجمع علماً كثيراً, مثل هؤلاء الثلاث التي ذكرهن, فإنه ذكر الصلاة والجهاد والعلم, وهذه الثلاث هي أفضل الأعمال بإجماع الأمة. وقال عباس: قال لي عمر: إنه والله يا ابن عباس ما يصلح لهذا الأمر إلا القوي في غير عنف, اللين في غير ضعف, الجواد في غير سرف, الممسك في غير بخل. قال يقول ابن عباس: فوالله ما أعرفه غير عمر. وعن سالم عن أبيه: أنه كان إذا ذكر عمر قال: لله در عمر, لقل ما سمعته يقول يحرك شفتيه بشيء قط يتخوفه؛ إلا كان حقاً.
10- وكان يرجع إلى الحق متى علمه, وقصة رد المرأة عليه, دليل على كمال فضله ودينه وتقواه, ورجوعه إلى الحق إذا تبين له, وأنه يقبل الحق حتى من امرأة, ويتواضع له, وأنه معترف بفضل الواحد عليه, ولو في أدنى مسألة, وليس من شرط الأفضل أن لا ينبهه المفضول لأمر من الأمور, فقد قال الهدهد لسليمان: "أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين" (النمل: 22) وقد قال موسى للخضر: "هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً" (الكهف: 66) والفرق بين موسى والخضر أعظم من الفرق بين عمر وبين أشباهه من الصحابة, ولم يكن هذا بالذي أوجب أن يكون الخضر قريباً من موسى, فضلاً عن أن يكون مثله, بل الأنبياء المتبعون لموسى كهارون ويوشع وداود وسليمان وغيرهم, أفضل من الخضر.
وفي الجملة؛ عمر لو نفذ اجتهاده لم يكن أضعف من كثير من اجتهاد غيره الذي أنفذه وكيف لم ينفذه, وقوله تعالى: "وآتيتم إحداهن قنطاراً" (النساء 20) يتأول كثير من الناس ما هو أصرح منها, بأن يقولوا: هذا قيل: للمبالغة, كما قالوا: في قول رسول الله صلى الله عليه و سلم المخرج في الصحيحين: "التمس ولو خاتماً من حديد": أنه قاله على سبيل المبالغة, فإذا كان المقدرون لأدناه يتأولون مثل هذا؛ جاز أن يكون المقدر لأعلاه يتأول مثل هذا, إلى غير ذلك, وعمر مع هذا لم يصر على ذلك, بل رجع إلى الحق. فعُلم أن تأييد الله له وهدايته إياه أعظم من تأييده لغيره وهدايته إياه. وأن أقواله الضعيفة التي رجع عنها ولم يصر عليها خير من أقوال غيره الضعيفة التي لم يرجع عنها.
وبالجملة؛ فهذا باب يطول وصفه, وعمر أكمل الصحابة بعد أبي بكر, والصحابة أعلم الأمة وأفقهها وأدينها, ولهذا أحسن الشافعي رحمه الله في قوله: هم فوقنا في كل علم وفقه ودين وهدى, وفي كل سبب ينال به علم وهدى, ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا, أو كلاما هذا معناه.
وقال أحمد بن حنبل: أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم.
وما أحسن قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال: أيها الناس من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات, فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة, أولئك أصحاب محمد, كانوا أفضل هذه الأمة, أبرّها قلوباً, وأعمقها علماً, وأقلّها تكلفاً, قوم اختارهم الله لصحبة نبيه, وإقامة دينه, فاعرفوا لهم فضلهم, واتبعوهم في آثارهم, وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم, فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.
وقال حذيفة رضي الله عنه: يا معشر القراء! استقيموا, وخذوا طريق من كان قبلكم, فوالله لئن استقمتم؛ لقد سبقتم سبقا بعيداً, وإن أخذتم يمينا وشمالاً؛ لقد ضللتم ضلالاً بعيداً.
ومعلوم أن رأي المحدَّث الملهم, أفضل من رأي من ليس كذلك, وليس فوقه إلا النص, الذي هو حال الصديق المتلقى من الرسول, ونحن نسلم أن الصديق أفضل من عمر, لكن عمر أفضل من سائرهم. وقال عبد الله بن عمر: ما سمعت عمر يقول لشيء: إني لأراه كذا وكذا؛ إلا كان كما يقول.
فالنصوص والإجماع والاعتبار؛ يدل على أن رأي عمر أولى بالصواب من رأي عثمان وعلي وطلحة والزبير وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم. ولهذا كانت آثار رأيه محمودة, فيها صلاح الدين والدنيا, فهو الذي فتح بلاد فارس والروم, وأعزّ الله به الإسلام, وأذل به الكفر والنفاق, وهو الذي وضع الديوان, وفرض العطاء, وألزم أهل الذمة بالصغار والغيار, وقمع الفجار, وقوم العمال, وكان الإسلام في زمنه أعزّ ما كان.
11- وكان عمر وأبو بكر أكمل الأمة بعد نبيها صلوات الله وسلامه عليه, وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اقتدوا باللَّذَيْنِ من بعدي؛ أبي بكر وعمر" ولهذا كان أحد قولي العلماء _وهو إحدى الروايتين عن أحمد_: أن قولهما إذا اتفقا حجة لا يجوز العدول عنها, وهذا أظهر القولين, كما أن الأظهر أن اتفاق الخلفاء الأربعة أيضاً حجة, لا يجوز خلافها لأمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع سنتهم.
وكان نبينا صلى الله عليه وسلم مبعوثا بأعدل الأمور وأكملها, فهو الضحوك القتال, وهو نبي الرحمة ونبي الملحمة, بل أمته موصوفون بذلك في مثل قوله تعالى: "أشداء على الكفار رحماء بينهم" (الفتح: 29) وقوله تعالى: "أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين" (المائدة: 54) فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين شدة هذا ولين هذا, فيأمر بما هو العدل, وهما يطيعانه, فتكون أفعالهما على كمال الاستقامة, فلما قبض الله نبيه وصار كل منهما خليفة على المسلمين خلافة نبوة؛ كان من كمال أبي بكر رضي الله عنه أن يولّي الشديد, ويستعين به, ليعتدل أمره, ويخلط الشدة باللين, فإن مجرد اللين يفسد, ومجرد الشدة تفسد, ويكون قد قام مقام النبي صلى الله عليه وسلم, فكان يستعين باستشارة عمر, وباستنابة خالد ونحو ذلك. وهذا من كماله الذي صار به خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولهذا اشتد في قتال أهل الردة شدة برز بها على عمر وغيره, حتى روى أن عمر قال له: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم! تألّف الناس. فقال: علام أتألفهم؟ أعلى حديث مفترى؟ أم على شعر مفتعل؟. وقال أنس: خطبنا أبو بكر عقيب وفاة النبي صلى الله عليه و سلم وإنا لكالثعالب, فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود.
وأما عمر رضي الله عنه فكان شديداً في نفسه, فكان من كماله استعانته باللين ليعتدل أمره, فكان يستعين بأبي عبيدة بن الجراح, وسعد ابن أبي وقاص, وأبي عبيد الثقفي, والنعمان بن مقرن, وسعيد بن عامر, وأمثال هؤلاء من أهل الصلاح والزهد.
ومن هذا الباب أمر الشورى, فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان كثير المشاورة للصحابة فيما لم يتبين فيه أمر الله ورسوله, فإن الشارع نصوصه كلمات جوامع, وقضايا كلية, وقواعد عامة يمتنع أن يعين واحداً منهم, ويكون غيره أصلح لهم, فإنه ظهر له رجحان الستة دون رجحان التعيين, وقال الأمر في التعيين إلى الستة يعينون واحداً منهم. وهذا أحسن اجتهاد إمام عالم عادل ناصح, لا هوى له رضي الله عنه. وأيضا فقد قال تعالى: "وأمرهم شورى بينهم" (الشورى: 38) وقال: "وشاورهم في الأمر" (آل عمران: 159) فكان ما فعله من الشورى مصلحة, وكان ما فعله أبو بكر رضي الله عنه من تعيين عمر هو المصلحة أيضاً, فإن أبا بكر تبيّن له من كمال عمر وفضله واستحقاقه للأمر ما لم يحتج معه إلى الشورى, وظهر أثر هذا الرأي المبارك الميمون على المسلمين, فإن كل عاقل منصف يعلم أن عثمان أو علياً أو طلحة أو الزبير أو سعداً أو عبد الرحمن بن عوف؛ لا يقوم مقام عمر, فكان تعيين عمر في الاستحقاق كتعيين أبي بكر في مبايعتهم له, ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أفرس الناس ثلاثة؛ بنت صاحب مدين حيث قالت: "يا أبت أستأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين" (القصص: 26) وأمرأة العزيز حيث قالت: "عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً" (القصص: 9) وأبو بكر حيث استخلف عمر.
وعن أبي معاوية قال: لما كان يوم بدر, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تقولون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله! قومك وأهلك, استبقهم واستأن بهم, لعل الله يتوب عليهم. وقال عمر: يا رسول الله! كذبوك وأخرجوك, قربهم واضرب أعناقهم,.. فذكر الحديث قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم شيئاً, قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم, قال: "فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم" (إبراهيم: 36) وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى, قال: "إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم" (المائدة: 118) وإن مثلك يا عمر كمثل نوح, قال: "رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً" (نوح: 26) وإن مثلك يا عمر كمثل موسى, قال: "وأشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم" (يونس: 88) (الترمذي: 7/31, الحاكم: 10/87, وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي ص: 196).
وعن إسماعيل بن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأبي بكر وعمر: "لولا أنكما تختلفان على ما خالفتكما". وكان السلف متفقين على تقديمهما حتى شيعة علي رضي الله عنه.
وعن حدير قال قدم أبو إسحاق السبيعي الكوفة, قال لنا شمر بن عطية: قوموا إليه, فجلسنا إليه, فتحدثوا, فقال أبو إسحاق: خرجت من الكوفة وليس أحد يشك في فضل أبي بكر وعمر وتقديمهما, وقدمت الآن وهم يقولون ويقولون! ولا والله ما أدرى ما يقولون!. وعن سعيد بن حسن قال: سمعت ليث بن أبي سليم يقول: أدركت الشيعة الأولى, وما يفضلون على أبي بكر وعمر أحداً. وعن مسروق قال: حُبُّ أبي بكر وعمر, ومعرفة فضلهما من السنة. ومسروق من أجلّ تابعي الكوفة. وكذلك قال طاووس: حبّ أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة, وقد روي ذلك عن ابن مسعود. وكيف لا تقدم الشيعة الأولى أبا بكر وعمر, وقد تواتر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضى الله عنه أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر, ثم عمر؟ وقد روي هذا عنه من طرق كثيرة, قيل إنها تبلغ ثمانين طريقاً. وقد رواه البخاري عنه في صحيحه, من حديث الهمدانيين الذين هم أخص الناس بعلي حتى كان يقول: ولو كنت بوابا على باب جنة ** لقلت لهمدان أدخلي بسلام وقد رواه البخاري من حديث سفيان الثوري _وهو همداني_ عن منذر _وهو همداني_ عن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: يا أبت! من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم؟ فقال: يا بني أو ما تعرف؟ فقلت: لا, قال: أبو بكر. فقلت: ثم من؟ قال: عمر. وهذا يقوله لابنه, بينه وبينه, ليس هو مما يجوز أن يقوله تقية, ويرويه عن أبيه خاصة. وقال على المنبر رضي الله عنه: لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر؛ إلا جلدته جلد المفتري. وقال الشافعي: لم يختلف الصحابة والتابعون في تقديم أبي بكر وعمر. وقال شريك بن عبدالله بن أبي نمر, وقال له قائل: أيما أفضل أبو بكر أو علي؟ فقال له: أبو بكر. فقال له السائل: أتقول هذا وأنت من الشيعة؟ فقال: نعم, إنما الشيعي من يقول هذا, والله لقد رقى عليّ هذه الأعواد فقال: ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر. أفَكُنّا نردّ قوله؟ أفكنّا نكذبه؟ والله ما كان كذاباً.
| |
|